ربع قرن من السير بمحاذاة الجدار.

تتزاحم الأفكار، تؤرقني الأسئلة، وتنتصب الحيرة أمام ناظريّ طويلاً، لا أجد بين يديّ سوى الدموع كردة فعلٍ تلقائية على كل هذا الضياع الذي يلفني، طوال الوقت يرافقني هذا الإحساس بأنني أسير بمحاذاة الجدار، أترفق في سيري تارةً، وأتعجل تارة أخرى، خطواتي مدروسة وحذرة، وقراراتي مقيّدة، وأفكاري متناقضة وكثيفة إلى حد أنها تحجب عليّ رؤية الطريق.. يزداد التصاقي بالجدار كلما ازداد عمري، كلما كبرت أكثر فهمت بأنني أودع جزءًا من حريّتي إلى الأبد، نظن أن الحريّة شيء متعلق بالبالغين، لكن الحقيقة أننا نولَد أحرارًا، تضعنا الحياة فيما بعد في أقفاص مختلفة، ونظل نكافح لنتعلم كيفية الطيران، ونحارب لنستعيد تلك الحريّة التي لم نفهم قيمتها آنذاك.

تداهمني نوبات يأسٍ حادّة، ثم تغشاها نوبات أمل أخرى، ثم أعود ليأسي، وهكذا أتنقل بين يأسٍ وأمل، بين فرحة وتعاسة، بين يقينٍ وشك، بين حلمٍ وخيبة، بين طمأنينة وقلق، لا تستقر المشاعر في داخلي على وتيرة واحدة، لا تهدأ ولا تستكين، وهناك أيضًا المؤثرات الخارجية التي تنجح في إرباك خط الأمان الذي أسير عليه، تنجح في غرس الوساوس والتشكيك بكل ما أؤمن به وأعرفه عن نفسي وعن الحياة.

لم تعد الأمور سهلة، منذ أدركت أنني كبرت، لم يعد الهروب أو التجاهل حلاً، بل إن الهروب في هذه المرحلة يعني ضياع العمر، ضياع الفرص، ضياع الوقت، في الحقيقة كل شيء اختاره الآن يجب أن يخضع لاختبار الضمان، يجب أن أتأكد من تأثيره علي وعلى مستقبلي، أي اختيار خاطئ يعني المزيد من الضياع والخسارات، وآخر ما أريده في هذه المرحلة أن أخسر، فالخسارة كانت رفيقة لدربي طوال السنين الماضية، خسارات متعددة ومتفاوتة، الآن أريد أن أربح، أربح فقط، لو شيء واحد حقيقي وملموس وأصيل، شيء واحد تقوم عليه سعادتي وأكون مطمئنة أنها سعادة أكيدة خالية من أية أوهام أو أكاذيب.

وفي ظل هذا كله أتذكّر:

«مع كل نهاية ليلة
لا أخاف أن أكبر يوما
أخاف أن يطول الانتظار
أن أبقى على قيد فرحٍ مؤجل
فأكبر وأكبر
ليتشقق جلد العمر
وتظهر كل الجراح»

لا يخيفني الكبر، فلكل مرحلة تحدياتها ولذاتها الخاصة، لكنني أخاف ضياع العمر على أشياء ليس لها قيمة، أخاف ضياع العمر بين انتظار وترقب، أخاف الأوهام، الأخطاء التي ستكلفني عمرًا لا يُستعاد، أخاف أن أعيش شبابي أقل مما ينبغي، فلا أجد غدًا في حصيلة ذكرياتي ما يوقد الحنين الناعم في صدري، ويمسح عليه بفكرة أنني “عشت حقًا”.

يُقال إن ما أمر به هو أزمة ربع العمر، هذا القلق طبيعي، ورهاب الوقت طبيعي أيضًا، وهذه المرحلة لن تدوم إلى الأبد، لكنها على كلٍ تنهش من أعمارنا وسعادتنا واستقرارنا النفسي، هذه المواجهة مع الحياة في هذه المرحلة العمرية صعبة، والأمل هو عتادنا الوحيد.

رد واحد على “ربع قرن من السير بمحاذاة الجدار.”

  1. ربما كانت أزمة رُبع العمر.. وربما لا! لكن -كما ذكرتِ- يبقى الأمل عتادنا الوحيد.
    والمُدهش دائمًا، أن العوض يأتي فجأة. 😇

    Liked by 1 person

أضف تعليق

تصميم موقع كهذا باستخدام ووردبريس.كوم
ابدأ